فصل: قال الطبري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قال ابن عباس وغيره: المعنى يخوفكم أولياءه؛ أي بأوليائه، أو من أوليائه؛ فحذف حرف الجر ووصل الفعل إلى الاسم فنصب.
كما قال تعالى: {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} أي لينذركم ببأس شديد؛ أي يخوّف المؤمن بالكافر.
وقال الحسن والسُّدِّي: المعنى يخوّف أولياءه المنافقين؛ ليقعدوا عن قتال المشركين.
فأما أولياء الله فإنهم لا يخافونه إذا خوّفهم.
وقد قيل: إن المراد هذا الذي يخوّفكم بجمع الكفار شيطانٌ من شياطين الإنس؛ إمّا نُعيم بن مسعود أو غيره، على الخلاف في ذلك كما تقدّم. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ} ففيه سؤال: وهو أن الذين سماهم الله بالشيطان إنما خوفوا المؤمنين، فما معنى قوله: {الشيطان يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ} والمفسرون ذكروا فيه ثلاثة أوجه:
الأول: تقدير الكلام: ذلكم الشيطان يخوفكم بأوليائه، فحذف المفعول الثاني وحذف الجار، ومثال حذف المفعول الثاني قوله تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ في اليم} [القصص: 7] أي فإذا خفت عليه فرعون، ومثال حذف الجار قوله تعالى: {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [الكهف: 2] معناه: لينذركم ببأس وقوله: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} [غافر: 15] أي لينذركم بيوم التلاق، وهذا قول الفراء، والزجاج، وأبي علي.
قالوا: ويدل عليه قراءة أبي بن كعب {يخوفكم بأوليائه}.
القول الثاني: أن هذا على قول القائل: خوفت زيدا عمرا، وتقدير الآية: يخوفكم أولياءه، فحذف المفعول الأول، كما تقول: أعطيت الأموال، أي أعطيت القوم الأموال، قال ابن الأنباري: وهذا أولى من ادعاء جار لا دليل عليه وقوله: {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا} أي لينذركم بأسًا وقوله: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} أي لينذركم يوم التلاق والتخويف يتعدى إلى مفعولين من غير حرف جر تقول: خاف زيد القتال، وخوفته القتال وهذا الوجه يدل عليه قراءة ابن مسعود {يخوفكم أَوْلِيَاءهُ}.
القول الثالث: أن معنى الآية: يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين، والمعنى الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويؤثرون أمره، فأما أولياء الله، فإنهم لا يخافونه إذا خوفهم ولا ينقادون لأمره ومراده منهم، وهذا قول الحسن والسدي، فالقول الأول فيه محذوفان، والثاني فيه محذوف واحد، والثالث لا حذف فيه.
وأما الأولياء فهم المشركون والكفار، وقوله: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} الكناية في القولين الأولين عائدة إلى الأولياء.
وفي القول الثالث عائدة إلى {الناس} في قوله: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} فتقعدوا عن القتال وتجنبوا {وَخَافُونِ} فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يعني أن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس. اهـ.

.قال القرطبي:

{فَلاَ تَخَافُوهُمْ} أي لا تخافوا الكافرين المذكورين في قوله: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ}.
أو يرجع إلى الأولياء إن قلت: إن المعنى يخوّف بأوليائه أي يخوّفكم أولياءه.
قوله تعالى: {وَخَافُونِ} أي خافون في ترك أمري إن كنتم مصدّقين بوعدي.
والخوف في كلام العرب الذُّعْر.
وخَاوَفَنى فلان فَخُفْتُه، أي كنتُ أشدّ خوفًا منه.
والخَوفاءُ المَفَازَة لا ماء بها.
ويُقال: ناقةٌ خَوْفَاء وهي الجُرْبَاء.
والخافة كالخريطة من الأَدَم يُشْتَارُ فيها العَسَل.
قال سَهلُ بنُ عبد الله: اجتمع بعض الصدّيقين إلى إبراهيم الخَلِيلِ فقالوا: ما الخوفُ؟ فقال: لا تأمن حتى تبلغ المأمن.
قال سهل: وكان الربيع بن خيثم إذا مرَّ بِكِيرٍ يُغْشَى عليه؛ فقيل لعليّ بن أبي طالب ذلك؛ فقال: إذا أصابه ذلك فأعلموني.
فأصابه فأعلموه، فجاءه فأدخل يده في قميصه فوجد حركته عالية فقال: أشهد أنّ هذا أخوف (أهل) زمانِكم.
فالخائف من الله تعالى هو أن يخَافَ أن يُعاقبَه إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة؛ ولهذا قيل: ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، بل الخائفُ الذي يترك ما يخَافُ أن يُعذَّب عليه.
ففرض الله تعالى على العباد أن يخافوه فقال: {وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} وقال: {وَإِيَّايَ فارهبون}.
ومدح المؤمنين بالخوف فقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ}.
ولأرباب الإشارات في الخوف عبارات مرجعها إلى ما ذكرنا.
قال الأستاذ أبو عليّ الدَّقاق: دخلت على أبي بكر بن فُورَك رحمه الله عائدًا، فلما رآني دَمعتْ عيناه، فقلت له: إنّ الله يعافيك ويَشفِيك.
فقال لي: أترى أنِّي أخاف من الموت؟ إنما أخاف مما وراء الموت.
وفي سُنن ابن ماجه عن أبي ذَرٍّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي أرى ما لا تَرَوْن وأسمع ما لا تسمعون أطّت السماء وحُقّ لها أن تَئِط ما فيها موضع أربِع أصابع إلاَّ وَمَلَكٌ واضعٌ جبهتَه ساجدًا لله واللَّهِ لو تعلمون ما أعلم لضَحِكتم قليلًا ولبكيَتَمْ كثيرًا وما تلذّذتم بالنساء على الفُرُشَات ولخرجتم إلى الصُّعُدات تَجْأَرُون إلى الله واللَّهِ لَودِدْت أني كنت شجرة تُعْضَد» خرّجه الترمذيّ وقال: حديث حسَن غريب.
ويُروى من غير هذا الوجه أن أبا ذَرٍّ قال: لوَدِدْت أنّي كنت شجرة تُعْضَد. والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إن كان الخطاب للمتخلفين فالأمر فيه واضح، وإن كان للخارجين كان مساقًا للإلهاب والتهييج لهم لتحقق إيمانهم، وإن كان للجميع ففيه تغليب، وأيًّا مّا كان فالجزاء محذوف، وقيل: إن كان الخطاب فيما تقدم للمؤمنين الخلص لم يفتقر إلى الجزاء لكونه في معنى التعليل، وإن كان للآخرين افتقر إليه وكأن المعنى إن كنتم مؤمنين فخافوني وجاهدوا مع رسولي لأن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله تعالى على خوف الناس. اهـ.

.قال الطبري:

وليس الذي شبه من ذلك بمشتبه، لأن الدراهم في قول القائل: هو يعطي الدراهم، معلوم أن المعطَى هي الدراهم، وليس كذلك الأولياء-في قوله: {يخوف أولياءه}- مخوَّفين، بل التخويف من الأولياء لغيرهم، فلذلك افترقا. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}.
الخطاب للرسول أو لكل أحد.
ومن قرأ على الغيبة فالضمير للرسول. أو المراد لا يحسبن حاسب أو لا يحسبنهم أمواتًا. وضمير المفول للذين قتلوا أي لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتًا. فحذف المفعول الأوّل لدلالة الكلام عليه، فكأنه مذكرو كما حذف المبتدأ في قوله: {بل أحياء} أي هم أحياء للدلالة. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهارالجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز وجل أنا أبلغهم عنكم فأنزل هذه الآية» وعن جابر بن عبد الله قال: نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي أراك مهتمًا؟ قلت: يا رسول الله قتل أبي وترك دينًا وعيالًا. «فقال: ألا أخبرك ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحًا. فقال: يا عبدي سلني أعطك. فقال: أسألك أن تردّني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية. فقال: أنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجون. فقال: يا رب فأبلغ من روائي» فنزلت. وقال جماعة من أهل التفسير: نزلت الآية في شهداء بئر معونة. وقال بعضهم: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور تحسروا وقالوا: نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فنزلت الآية تنفيسًا عنهم وإخبارًا عن حال قتلاهم أنهم أحياء متنعمون. واختلف العلماء في معنى هذه الحياة. فعن طائفة أنها على سبيل المجاز. وقال الأصم والبلخي: أريد بها الذكر الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبة. وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال: ما مات من خلف مثلك.
ومن هذه الطائفة من قال: مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم وأنها لا تبلى تحت الأرض ألبتة. روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين إلى قبور الشهداء أمر بأن ينادي: من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع. قال جابر: فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصاب المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دمًا. ومن هؤلاء من قال: المراد أنهم لا يغسلون كما لا يغسل الأحياء وذهبت طائفة من متكلمي المعتزلة إلى أن المراد أنهم سيصيرون أحياء والغرض تعذيب منكري المعاد، وزيف بأنه عدول عن الظاهر، وبأن عذاب القبر ثابت. فالثواب أولى. وبأنه نهى عن حسبأنهم أمواتًا والذي يزيل هذا الحسبان هو اعتقاد أنهم أحياء في الحال لا اعتقاد أنهم أحياء في قوم القيامة، فإن ذلك مما لا شك النبي والمؤمنون فيه. وبما رويناه عن ابن عباس أن أرواحهم في أجواف طير. وبقوله: {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم} والاستبشار بمن يكون في الدنيا لابد أن يكون قبل يوم القيامة. وذهب كثير من المحققين إلى أنهم أحياء في الحال لكن يحياة روحانية، وأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة. وذلك أن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية، لأن أجزاء البدن في الذوبان والانحلال ويعرض لها السمن والهزال والقوّة والكلال، وكلنا يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره إلى آخره والباقي مغاير للمتبدل. ولأن الإنسأن يكون عالمًا بنفسه حالمًا يكون غافلًا عن جميع أعضائه وأجزأئه، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم. ثم ذلك الشيء المغاير لهذا البدن المحسوس سواء كان جسمًا مخصوصًا ساريًا أو جوهرًا مجردًا لا يبعد أن ينفصل بعد موت البدن حيًا أو أماته الله فيعيده حيًا وبهذا يثبت عذاب القبر وثوابه وتزول الشبهات. ومن تأمل في الأمور الواردة عليه وجد أحوال النفس مضادة لأحوال البدن، ووجد قوة أحدهما مقتضية لضعف الآخر، كما أن البدن يضعف وقت النوم وتقوى النفس على مشاهدة المغيبات ونقوش عالم الأرواح، وإذا أعرضت النفس عن الطعام والشراب وأقبلت على مطالعة العالم العلوي زادت سرورًا وابتهاجًا وفرحًا وارتياحًا، وانطبعت فيها الجلايا القدسية، وانكشفت لها المعارف الإلهية، وأكثر أرباب الشرع على أنهم أحياء في الحال بحياة جسمانية. ثم منهم من قال: أنه تعالى يصعد أجسادهم إلى السموات وإلى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادات والكرامات إليها، ومنهم من قال: بل يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات إليها. ومن الناس من طعن في هذه القول وقال: إن تجويز كون البدن الميت الملقى في التراب حيًا متنعمًا عاقلًا عارفًا نوع من السفسطة. والحق في هذه المسألة عندي خلاف ما يقوله أهل التناسخ من أن النفس بعد موت بدنها تقبل على بدن آخر وتعرض عن الأوّل بالكلية، وخلاف ما يقوله الفلاسفة من أن النفس تنقطع علاقتها عن البدن مطلقًا وإنما تلتذ أو تتألم هي بما اكتسبت من المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة أو بالعقائد الباطلة والملكات الذميمة.
والذي أقوله: إن النفس تبقى لها علاقة مع بدنها لا بالتحريك واكتساب الأعمال، ولكن بالتلذذ والتألم والتعقل ونحوها. وليس ببدع أن يتغير التعلق بحسب تغير الأطوار كما كان يتغير في مدّة العمر بحسب الأسنان والأمزجة. والتحقيق فيه أن النفس في هذا العالم جعلت متصرفة في البدن لأجل اكتساب الأعمال والملكات، وأنه يفتقر إلى تحريك الأعضاء وأعمال الجوارح والآلات، وبعد الموت تجعل متصرفة فيه من جهة الجزاء والحساب، فكيف ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر؟ فلعله يكفي بعد الموت أن يكون له علاقة التلذذ والتألم والإدراك فقط إلى أن تقوم القيامة الكبرى. وهذا القدر لا ينافي كون البدن مشاهدًا في القبر من غير تحرك ولا إحساس ونطق، ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وقال: يافلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقًا. فقال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أجسادًا لا أرواح فيها؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردّوا عليّ شيئًا. وفي حديث عذاب القبر «أنه ليسمع قرع نعالهم» ولعل السر في أنه اكتفى بهذا القدر من التصرف أنه إن كان أكثر من ذلك كما سيكون في القيامة الكبرى نافى تكليف سائر الأحياء وأفضى الأمر إلى الإلجاء وهو السر في آخر حديث عذاب القبر «فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» وأما الشهداء فلا يبعد أن يجازيهم الله تعالى بمزيد التلذذ بنعيم الآخرة كما قتلوا تعجيلًا للثواب. وكما عجلوا الانقطاع عن طيبات الدنيا ومشتهياتها فإن جزاء كل طائفة ينبغي أن يناسب عملهم. فافهم هذه الأسرار فإنها علق مضنة وبه ثبت جميع ما ورد في الشريعة الحقة والله أعلم. ومعنى {عند ربهم} أنهم مقربون ذوو كرامة كقوله: {فالذين عند ربك} [فصلت: 38] أو المراد بحيث لا يملك أحد جزاءهم سوى ربهم، أو المراد في علمه وحكمه كما يقال: هذه المسألة عند الشافعي كذا.
يرزقون كما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها التنعم برزق الله كما ورد في الحديث. {فرحين بما آتاهم الله من فضله} وهو توفيق الشهادة وما خصصهم به من التفضيل على غيرهم من قبل تعجيل رزق الجنة ونعيمها. وقال المتكلمون: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم.
فقوله: {يرزقون} إشارة إلى المنفعة وقوله: {فرحين} إشارة إلى الابتهاج الحاصل بسبب التعظيم. بلسان الحكماء {يرزقون} إشارة إلى كون ذواتهم مشرقة بالمعارف الإلهية و{فرحين} رمز إلى ابتهاجها بالنظر إلى ينبوع النور ومصدر الكمال، و{يستبشرون بالذين} بإخوانهم من المجاهدين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم. والاستبشار السرور الحاصل بالبشارة. ومعنى {من خلفهم} أنهم بقوا بعدهم. وقيل لم يحلقوا بهم أي لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم {ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون} بدل الاشتمال من الذين. وذلك أن الله يبشرهم بأن من تركوا خلفهم من المؤمنين يبعثون امنين يوم القيامة، فهم مستبشرون بأنه لا خوف عليهم وإنما بشرهم الله بذلك لأنهم لما فارقوا الدنيا بغتة كان ذلك مظنة أن يكون لهم نوع تعلق بأحوال إخوانهم وهو شبه تألم، فأكرمهم الله تعالى بإزالة ذلك التعلق بأن أعلمهم أمن إخوانهم من عذاب الله فحصل لهم سروران: من قبل حالهم في أنفسهم وذلك قوله: {فرحين بما آتاهم الله من فضله} ومن قبل حال إخوانهم وأعزتهم وذلك قوله: {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم} ثم كرر هذا المعنى لمزيد التأكد فقال: {يستبشرون بنعمة من الله} وهي الثواب. وفضل وهو التفضل الزائد وهذا هو سرورهم بسعادة أنفسهم. {وأن الله} أي وبأن الله {لا يضيع أجر المؤمنين} وهذا سرورهم بسعادة إخوانهم المؤمنين. ثم أنه تعالى مدح المؤمنين بغزوتين متصلتين بغزوة أحد تعرف أولاهما بغزوة حمراء الأسد، والثانية بغزوة بدر الصغرى. أما الأولى فما روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وقالوا: إنا قتلنا أكثرهم ولم يبقَ منهم إلاّ القليل. فلم تركناهم؟ فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوّتهم فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال: لا أريد الآن أن يخرج معي إلا من حضر يومنا بالأمس. فخرج في سبعين من الصحابة حتى بلغوا حمراء الأسد- وهي من المدينة على ثمانية أميال- فألقى الله الرعب في قلوب المشركين وانهزموا. فنزلت {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا} بإتيان جميع المأمورات {واتقوا} بالانتهاء عن المحظورات {وأحسنوا} في طاعة الرسول واتقوا مخالفته وإن بلغ الأمر بهم إلى الجراحات. روي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة. ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة. ومن في قوله: {للذين أحسنوا منهم} للتبيين لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم. وقال أبو بكر الأصم: نزلت في يوم أحد لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم بالناس بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم، وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنهم بعد أن مثلوا بحمزة، فصلى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ودفنهم بدمائهم.